بسم الله الرحمن الرحيم
"وأنذر عشيرتك الأقربين" (سورة الشعراء:214) ،تعتبر هذه الآية إيذاناً لانطلاقة رتبة جديدة من مراتب الدعوة بعد النبوة ؛فقد قال ابن القيم رحمه الله كما في زاد المعاد:1/86 :"فصل في ترتيب الدعوة ولها مراتب ، المرتبة الأولى النبوة ،والثانية إنذار عشيرته الأقربين .." أ.هـ. قال الإمام الشوكاني عند تفسير آية الشعراء : ( خص الأقربين لأن الاهتمام بشأنهم أولى ، وهدايتهم إلى الحق أقدم .. وقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لمّا نزلت دعا النبي قريشاً فاجتمعوا ،فعمّ وخص ،فذلك منه بيان للعشيرة الأقربين ) أ. هـ . وتكمن أهمية دعوة الأهل وقيام المسلم بواجبه تجاههم أنَّ فيها أولاً : استجابة لأمر الله عز وجل الذي أمر رسوله وعباده المؤمنين وحثهم ورغبهم في دعوة الأهل والأقارب كما سبق ،وكما في قوله تعالى :"يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة .." (التحريم:6) .ثم إنّ من أعظم الصلة والبر بالأهل أن تقربهم لمحاب الله ورضوانه وتبعدهم عن غضبه وعقابه .كما أنَّ فيها إبراءً للذمة بإيصال الخير والحق وترغيبهم فيه وتحذيرهم من خلافه ثم بعد ذلك :"لا يضركم من ضلّ إذا اهتديتم" (المائدة:105) ،وأنّ في امتثال المسلم وقيامه بواجبه داخل أسرته وسيلة لإصلاح المجتمع وسعادته وفلاحه في الدارين ،وغيرها كثير .
ومن هذا يتبين لكل ذي لُبٍّ وحِجى عظيم المسؤولية والأمانة الملقاة على عاتقه تجاه أسرته بغضّ النظر عن موقعه داخل هذه الأسرة والداً كان أم ولداً ،فضلاً عمن نذر نفسه ووقته وجهده وماله للدعوة إلى الله . فإنَّ أدنى درجات المسؤولية هي مسؤولية الشخص عن نفسه ،ثم يليها مسؤوليته عن أهله وذويه ،ثم الأقرب فالأقرب حتى يعمّ نفعه وينتشر خيره وبره في حيّه ومجتمعه وأمته .
إن المسلم الموفق المسدد لا يكتفي بأن يكون صالحاً في نفسه فقط ،بل يكون مصلحاً لغيره ؛كيف وقد أخبر الله في محكم تنزيله : "وما كان ربك ليهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون" (هود:117) .
ولعلّنا نشير إشارات سريعة بما ينبغي على كل مسلمٍ أن يهتم به داخل أسرته أيّاً كان موقعه داخل هذا الصرح والداً كان أم ولداً ،سابقاً بالخيرات كان أم مقتصداً أم ظالماً لنفسه ؛حملني على هذا التعميم ما رواه البخاري ومسلم عن معقل بن يسار عن النبي أنه قال: "ما من عبدٍ يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشٌّ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة" :
- الأصل في المسلم أن يبتغي من وراء تربية أولاده ورعاية أسرته رضوان الله تعالى ويرجوا ثوابه ،فالتربية وفاءٌ لدينٍ قديم ،حيث كابد آباؤنا وأمهاتنا في تربيتنا نحواً مما نكابده الآن مع أبنائنا جرياً على سنة الله تعالى في الخلق .
- تربية النفس على فعل ما يحسن وترك ما يقبح شرعاً وعقلاً ،فقد رأى أحد السلف رجلاً لا يحسن صلاته ؛فقال: ما أرحمني بعياله ،فقالوا: له ،وما شأن عياله؟ فقال: هو كبيرهم ومنه يتعلمون .ثم إنّ في تربية النفس على محاسن الأخلاق والأعمال دلالة على الخير وترغيب فيه ؛فقد روى مسلم عن ابن مسعود عن النبي أنه قال: "من دلّ على خيرٍ فله مثل أجر فاعله" ،والدلالة قد تكون قولية أو فعلية .
- إنَّ أعظم ما ينبغي على المسلم تجاه أسرته تعريفهم بربهم وخالقهم ورازقهم ،وغرس محبته في قلوبهم ،ولهج ألسنتهم بشكره والثناء عليه ،وأترك لك الفرصة أيها المربي لتعيش مع المربي الأعظم والنبي الأكرم في وصيته العظيمة لحبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره فقد توفي النبي وعمره ثلاثة عشر سنة ؛فقد روى الترمذي في جامعه والإمام أحمد في مسنده عن ابن عباس :أنه قال كنت رديف النبي يوماً على دابة فقال :"يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك ،احفظ الله تجده تجاهك ،إذا سألت فسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله ،واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ،وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ،رفعت الأقلام وجفت الصحف" .
- تعريفهم بنبيهم وسيرته العطرة وحثهم على التمسك بسنته والاهتداء بهديه ؛في مآكلهم ومشاربهم ولباسهم وخروجهم ودخولهم ونومهم واستيقاظهم .. وفي جميع أمور حياتهم .
- مراعاة كثرة المتغيرات في هذا العصر والتي ينتج عنها تحديات وفرص مغايرة بشكل كبير عما كان يعيشه الوالد من ذي قبل ؛وعليه فلا بدّ للمربي أيّاً كان ،مراجعة وتقييم الأساليب التربوية التي استخدمت معه ومع الأجيال السابقة ومن ثمَّ تقويمها أو ثباتها حسب ما يناسب هذه التحديات والفرص المتاحة ،ومع أهمية فقه المرحلة التي يعيش فيها أولادنا ؛فأولادنا خلقوا ليعيشوا في زمان غير زماننا ،ولذا فإنهم بحاجة لتربية غير تربيتنا .
- احترام المسلم لأسرته ،وتقديره لجهودهم ،والثقة بهم ،والعدل بينهم ،وتحميلهم ما يطيقون من المسؤوليات ، ومؤانستهم وملاطفتهم ،والسفر والنزهة معهم ،وفتح المجال لإبداء آرائهم ومشاعرهم ،وإشراكهم بالمقترحات ،وطلب المشورة منهم ؛مما يعزز علاقة المسلم بأسرته ويقوي أواصر التواصل بينه وبينهم .
- التوازن في التربية مبدأ مهم ومطلب ملحّ حتى تؤتي التربية أُكلها ؛ومن ذلك التوازن بين القسوة والتدليل فيحتاج المتربي إلى الحزم أحياناً – لا القسوة – كما يحتاج إلى العاطفة ؛فلا بد من المزج في تربية الطفل خصوصاً بين أمرين : الحب ومراعاة المشاعر وتلبية بعض الرغبات ،وبين التوجيه والنظام والحزم والمتابعة .
- من طبيعة بني آدم الخطأ والزلل ،وكثيراً من المشاكل الأسرية الصغيرة والبسيطة سواءً بين الزوجين أو الأولاد أو بين الوالد وأبناءه تتحول إلى مشاكل كبيرة ومعقدة ؛ومن الأسباب في ظني : عدم التفريق بين نقد الخطأ ونقد المخطئ فنحتاج كثيراً في تعاملاتنا أن نتعلم كيف ننقد السلوك لا الذات ؛لأن الهدف هو تصحيح الخطأ حتى لا يتكرر وقوعه . ومن ذلك كذلك غياب فقه الموعظة والعجلة وعدم المداراة والصبر واستخدام الحكمة وإعطاء عامل الزمن حقه في تغيير بعض العادات أو الأخلاق التي ربما كنّا سبباً في توريثها لأبنائنا . ومنها عدم مراعاة عامل الجهل والسن بالنسبة للمخطئ وكل هذه أمور شرعية قبل أن تكون قواعد تربوية .
- أخيراً وليس آخراً : لئن كان سائغاً في زمن آباءنا وأجدادنا الخلل والضعف التربوي ؛نظراً لقلة العلوم التربوية والمتخصصين في هذا الفن في ذلك الزمن ؛فليس سائغاً في عصر الثورة المعلوماتية ،والعولمة الثقافية ؛فقد أصبحت المكتبات والتسجيلات والشبكة العنكبوتية والمنتديات الحوارية تعج بالعلوم والمهارات التربوية وتناقش القضايا والمشكلات التربوية مع المختصين والمهتمين ،فضلاً عن المراكز المتخصصة في الاستشارات الأسرية والتربوية وإن كانت في بدايتها ؛فينبغي للمربي أن يجتهد في تحصيل ما لا بدّ منه من هذه المعلومات والمهارات المتعلقة بشؤون الأسرة والعلاقة الزوجية وتربية الأبناء على حسب قدرته وطاقته والله الموفق والمسدد أولاً وآخراً .